ترامب، إيران، إسرائيل- صراع نووي متصاعد ومستقبل غامض في الشرق الأوسط

شهدت الفترة الرئاسية للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مساعي دبلوماسية مكثفة مع إيران، تمثلت في خمس جولات من المفاوضات الشاقة حول برنامجها النووي الطموح. غير أن هذه الجهود الدبلوماسية لم تُفضِ إلى حلول جذرية، إذ تخللتها ضربات إسرائيلية داخل الأراضي الإيرانية، وسبق ذلك إجلاء احترازي لبعض الرعايا الأمريكيين من المنطقة تحسباً لأي تصعيد محتمل.
أحدثت الثورة الإسلامية في إيران تحولاً جوهرياً في طبيعة العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران. قبل الثورة، كانت الولايات المتحدة تنظر إلى نظام الشاه كحليف استراتيجي ذي أهمية بالغة، ودعامة أساسية للاستقرار في منطقة الشرق الأوسط الحيوية، وذلك في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية.
في تلك الحقبة الزمنية، لم تكن الولايات المتحدة بحاجة إلى نشر أساطيلها البحرية أو قواتها العسكرية لحماية مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، إذ كان الشاه يقوم بدور "الشرطي الأمريكي" بكفاءة عالية، وذلك حتى اندلاع الثورة الإيرانية وما أعقبها من تعقيدات جمة ألقت بظلالها على المشهد السياسي بين البلدين.
تعود بدايات تفكير إيران في استغلال الطاقة النووية لأغراض سلمية إلى عهد الشاه، وذلك بمساعدة أمريكية محدودة النطاق في ذلك الوقت.
خلال العقدين الماضيين، تصاعدت وتيرة الرغبة الإيرانية في التوسع في إنتاج الطاقة النووية السلمية، مما جعلها تمتلك القدرات الفنية التي تؤهلها لإنتاج أسلحة نووية في حال توفر القرار السياسي اللازم لذلك.
لذلك، شكل الملف النووي الإيراني أحد أبرز القضايا التي استحوذت على اهتمام بالغ في صميم السياسة الخارجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط المضطربة.
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما الذي دفع الرئيس ترامب إلى السماح لإسرائيل بشن هجمات على أهداف داخل إيران في هذا التوقيت بالذات، على الرغم من الجولات التفاوضية الأخيرة التي جرت بين الولايات المتحدة وإيران؟
توجّهات ترامب الخارجية والملف النووي الإيراني
تجسدت الرغبة السياسية للرئيس ترامب، منذ توليه منصبه في البيت الأبيض، في التوصل إلى اتفاق سياسي شامل مع إيران يمنعها من الحصول على السلاح النووي، وذلك من خلال المفاوضات الدبلوماسية وتجنب اللجوء إلى الخيارات العسكرية المكلفة.
وكان الرئيس ترامب قد اتخذ قراراً بإلغاء الاتفاق النووي السابق مع إيران، الذي أبرمته إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، واصفاً إياه حينها بأنه "اتفاق كارثي" سمح لإيران بالاستفادة من مليارات الدولارات، وخفف عنها الكثير من العقوبات الاقتصادية المشددة التي كانت مفروضة عليها.
وبناءً على ذلك، بادر الرئيس ترامب، خلال فترة رئاسته الأولى، إلى الانسحاب من هذا الاتفاق النووي من جانب الولايات المتحدة، وفرض في المقابل عقوبات اقتصادية قاسية على إيران بهدف الضغط عليها للعودة إلى طاولة المفاوضات بشروط جديدة.
والجدير بالذكر أن الرئيس السابق جو بايدن لم يتمكن هو الآخر من إبرام اتفاق نووي جديد مع إيران، مما أدى إلى استمرار حالة التوتر الشديد في العلاقات بين البلدين حتى وقتنا الراهن.
عاد الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض رئيساً منتخباً لولاية ثانية في مطلع هذا العام، حاملاً معه استراتيجية "العصا والجزرة" كنهج سياسي خارجي تجاه إيران، ومؤكداً مجدداً رغبة إدارته في إبرام اتفاق يضمن منع إيران من امتلاك الأسلحة النووية، مقابل تخفيف العقوبات التي تستهدف قطاع النفط الحيوي في إيران وتصديره، بالإضافة إلى تسهيل التعاملات التجارية والمالية مع البنوك الإيرانية.
ارتأى الرئيس ترامب أن هذه "الجزرة" الأمريكية قد تعود بمنافع اقتصادية جمة على بعض الشركات الأمريكية، في حال حدوث انفراج سياسي واقتصادي كبير في العلاقات بين إيران والولايات المتحدة، وهو احتمال يبدو بعيد المنال في الوقت الحالي في ظل الهجمات الإسرائيلية الأخيرة على أهداف إيرانية.
سعى ترامب إلى إبرام اتفاق مع إيران من خلال اتباع أسلوب يقوم على رفع سقف المطالب التفاوضية، مثل اشتراطه التوقف الكامل عن تخصيب اليورانيوم، وهو أمر رفضته إيران بشدة، حيث تصر دائماً على حقها السيادي في تخصيب اليورانيوم بدرجات دنيا، للاستفادة منه في الاستخدامات المدنية السلمية وفقاً لمعايير الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
كما حاول ترامب التفاوض على الموافقة التدريجية على رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران، بدلاً من رفعها دفعة واحدة كما تطالب الأخيرة.
وقد شكلت هذه المسألة - بالإضافة إلى إصرار إيران على الحفاظ على حقها في تخصيب اليورانيوم للاستخدامات السلمية - العائق الأكبر أمام التوصل إلى اتفاق نووي جديد.
لا شك أن الوسطاء الخليجيين، وعلى رأسهم سلطنة عُمان والمملكة العربية السعودية، بذلوا جهوداً مضنية لتقريب وجهات النظر الأمريكية والإيرانية، بهدف حل معضلة الملف النووي الإيراني بالطرق السلمية، وتجنيب المنطقة المزيد من الحروب والتوترات العسكرية.
ظل ترامب يلوّح على الدوام بالخيار الإسرائيلي ضد إيران كورقة ضغط إستراتيجية أخرى في حال فشل التوصل إلى اتفاق نووي، وإصرار إيران على المضي قدماً في عملية تخصيب اليورانيوم بمستويات عالية.
لقد كانت إسرائيل والولايات المتحدة في سباق محموم مع الزمن لإيقاف البرنامج النووي الإيراني بشكل كامل، لا سيما مع توالي التقارير الدولية التي أشارت إلى أن إيران تزيد من مستويات تخصيب اليورانيوم بشكل مطرد، مما يجعلها على مقربة من إنتاج السلاح النووي.
ومع ذلك، يأمل ترامب ألا تتسع رقعة الحرب بعد الهجمات الإسرائيلية الأخيرة، وأن يقتصر الرد الإيراني على نطاق محدود، على غرار ما حدث عند اغتيال القائد الفلسطيني إسماعيل هنية في طهران.
وربما يعلق ترامب آمالاً على عودة إيران لاحقاً إلى طاولة المفاوضات بعد إزالة الخطر الأكبر الذي يمثله برنامجها النووي.
ولكن ربما يغفل ترامب عن خطورة تبادل الهجمات الإسرائيلية والإيرانية على استقرار منطقة الشرق الأوسط والسلام العالمي، وقد تجد الولايات المتحدة نفسها مضطرة لخوض حرب جديدة في منطقة الشرق الأوسط إذا خرجت الأمور عن السيطرة بشكل كامل.
موقف إسرائيل
تسعى إسرائيل، من خلال هجماتها الأخيرة ضد إيران، إلى إظهار قوتها وهيمنتها في المنطقة، على الرغم من أنها تخوض معارك في عدة جبهات في غزة واليمن وإيران. إلا أن إسرائيل تبدو في هذه المرحلة أقل قوة مما كانت عليه قبل عقد من الزمن، عندما كان الرئيس السابق باراك أوباما يجري مفاوضات مع إيران بشأن برنامجها النووي.
راهن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على قدراته السياسية في إقناع ترامب بمهاجمة إيران وتدمير منشآتها النووية، لكن ترامب يفضل أن تقوم إسرائيل بتنفيذ هذا الهجوم بنفسها، مؤكداً أن هذا الهجوم هو عمل إسرائيلي منفرد، وليس بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية.
تستطيع إسرائيل أن تحقق بعض الأهداف الإستراتيجية من خلال هذه الهجمات، نظراً لما تمتلكه من معلومات استخباراتية دقيقة، مما مكنها من استهداف بعض القادة العسكريين الإيرانيين. ولكن على المدى الطويل، لن تكون إسرائيل قادرة على خوض حرب طويلة الأمد ضد إيران، وهي في الوقت نفسه تخوض حرباً شرسة في غزة، وتتعرض لهجمات صاروخية من الحوثيين، وتعاني من عزلة دولية متزايدة.
ومهما قدم الرئيس الأمريكي ترامب من دعم عسكري لإسرائيل، فإن إطالة أمد الحرب بين إسرائيل وإيران ستكلف الولايات المتحدة الأمريكية خسائر فادحة، كما ستمنح روسيا والصين فرصة ذهبية لتعزيز نفوذهما في منطقة الشرق الأوسط.
يرى نتنياهو أن استمرار آلة الحرب الإسرائيلية هو الضمانة الوحيدة لاستمراره في السلطة، وتوحيد الأحزاب الإسرائيلية خلف جيشها في خضم هذه الحروب.
ولكن، النيران تشتعل حول إسرائيل، وأصبحت أكثر عرضة للاستهداف في عمقها الأمني، مقارنة بالحروب التي خاضتها في الماضي.
موقف إيران وردّها المتوقع
تقوم الإستراتيجية الإيرانية فيما يتعلق بأسلحة الدمار الشامل على الاستفادة من الدروس السياسية التي استخلصتها من تجارب ثلاث دول تعاملت مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهي: كوريا الشمالية والعراق وليبيا.
فالحالة العراقية تكشف أن تقديم تنازلات كبيرة، كتنازلات الرئيس العراقي الراحل صدام حسين - وسماحه للوكالة الدولية للطاقة الذرية بتفتيش حتى قصوره الرئاسية - لم تشفع له عند إدارة جورج بوش الابن في تجنب الحرب على بلاده.
أما النموذج الليبي، فقد ظهر بعد حرب العراق، عندما قدم الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي تنازلاً كاملاً عن برنامجه النووي، ووافق على دفع مليارات الدولارات كتعويضات مالية لضحايا نظامه من المواطنين الغربيين وغيرهم.
أدت هذه التنازلات الكبيرة إلى رفع الحظر الاقتصادي المفروض على ليبيا، وقبول التعامل معها من قبل المجتمع الدولي الغربي، قبل الإطاحة بالنظام بعد اندلاع ثورة الربيع العربي في ليبيا.
أما النموذج الكوري، فيظل هو الأقرب بالنسبة لإيران، حيث تبنت كوريا الشمالية نهجاً متصلباً حتى تمكنت من امتلاك القنبلة النووية، ومن ثم أصبح من الصعب السيطرة عليها أو شن حرب دولية ضدها.
ولكن الظروف الإقليمية المحيطة بإيران تختلف عن تلك التي تحيط بكوريا.
جاءت هذه المفاوضات أيضاً في ظل إطار إقليمي فقدت فيه إيران الكثير من نفوذها، مثل خسارة حليفها بشار الأسد في سوريا، وتراجع قوة حليفها حزب الله في لبنان.
ولكن سيبقى خيار الاستمرار في تخصيب اليورانيوم خياراً إستراتيجياً إيرانياً - بما في ذلك القدرة على إنتاج القنبلة النووية على المدى البعيد - لن تتخلى عنه بسهولة، كما توقعت إدارة الرئيس الأمريكي ترامب.
لذلك، لن تثني الهجمات الإسرائيلية الأخيرة إيران عن الاستمرار في برنامجها النووي، لأنه يعتبر الضمانة الأولى لأمنها القومي، كما هو الحال بالنسبة لدولة كوريا الشمالية.
من المتوقع أن تقوم إيران بشن هجوم سريع ضد إسرائيل، والاستعداد لخوض حرب طويلة الأمد، في حالة استمرار الهجمات الإسرائيلية، حيث تبدو إيران أكثر استعداداً وخبرة في الحروب طويلة الأمد من إسرائيل.
يستطيع الرئيس الأمريكي ترامب أن يمنح الضوء الأخضر لإسرائيل لمهاجمة إيران، لكنه ليس قادراً بأي حال من الأحوال على أن يمنح الضوء الأحمر لوقف الحرب بينهما.